التحليل السياسي له تعاريف مختلفة ولكن يراد منها في الجملة "قراءة حدث سياسي معين ومعرفة أسبابه ودوافعه وما هو المطلوب تجاهه" والتحليل السياسي الآن علم له ضوابطه وهناك عدة طرق وأشكال للتحليل السياسي لسنا الآن بصدد الحديث عنها. والمحلل السياسي الناجح-ولا يقصد به أن يكون إعلامياً فقط فالسياسي نفسه ينبغي أن يكون محللاً سياسياً أو أن يكون لديه مستشارين في هذا الشأن- هو الذي يقرأ الأحداث بدقة أكبر ويقرأ ما بين السطور كما يعبرون وفقاً لمعطيات واقعية وليس وفقاً لتكهنات فالتحليل السياسي ليس علم تنجيم ولا كهانة، مستعيناً بخصوص ذلك بمستواه الثقافي وقدرته الفكرية ومعرفته بالأحداث ومعرفته بالأشخاص المرتبطين-من صدر منهم أو من سيتأثرون به- بهذه الاحداث ودوافعهم، وحالياً التسريبات الإعلامية.فدك وقصتها يعرفها الجميع ففدك واحة تقع في أطراف الحجاز قرب مدينة خيبر وهبها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لبنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأنها كانت ملكاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولن نخوض في كيفية إثبات ذلك لأنه مما نوقش بكثرة في الكتب والبحوث والمحاضرات وهو ليس موضوعنا بالمباشر، ما يهمنا من الأمر هو تصرف الزهراء (عليها السلام) ومطالبتها بفدك وما الذي كانت تقصد من وراءه؟بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدثت حوادث جسام وتنازع المسلمون بخصوص خليفته بدفع من قوم رغم وضوح المطلب وعدم تقصير الرسول الكريم في بيان ذلك في بيعة غدير خم الشهيرة وقبلها وبعدها، وقد تحدثت عن ذلك الزهراء (سلام الله عليها) باختصار ووضوح في أبياتها الشهيرة عن ذلك :قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبوتقول أيضاً:أبدى رجالٌ لنا نجوى صدورهم لما مضيت وحالت دونك التُربُتجهمتنا رجال وأُستخف بنا لما فُقدت وكل الإرث مغتصبُالهنبثة هو الأمر الشديد الذي فيه اختلاف، أي إنها كانت مدركة لمستوى الاختلاف وشدته وإنه نتاج فقد النبي، وقولها أبدى رجال وما بعده يدل بوضوح على معرفتها المسبقة بما في صدور القوم وتحليل لنواياهم، أما قولها كل الإرث مغتصب فهو واضح في الدلالة على حجم قضيتها فالإرث الكلي المغتصب هو الخلافة.لم يقتصر الأمر على قراءة دوافع القوم ونواياهم بل إن الزهراء (عليها السلام) وهي بنت ثمانية عشر سنة كانت مدركة لعقلية ونفسية العرب والنقلة النوعية التي أحدثتها الرسالة المحمدية في وضعهم وآثار الجاهلية الباقية فيهم، فمن كلام لها في الخطبة الفدكية : "، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذله خاسئين..."ومن مراجعة الخطبة الفدكية وكل كلمات وخطب وأشعار الزهراء (عليها السلام) عن تلك الفترة يمكننا معرفة إنها سلام الله عليها قامت بتحليل سياسي ناجح جداً فهي من جهة تحليل الحدث نفسه اعتمدت على :1-قراءة وضع المجتمع وأثر الرسالة فيه.2-تاريخ القوم الذين اغتصبوا الخلافة ودوافعهم.3-الطرق التي نهجوها في ذلك.فعمدت للتعامل مع الحدث إلى التالي:1-فضح دوافع القوم ليس بشكل مباشر فقط وإنما عن طريق المطالبة بفدك وهي حق واضح لها.2-إحراجهم بخطبها وكلامها المباشر وحوارها معهم إذ ألزمتهم الحجة حتى قيل إن ابو بكر فكر في التراجع!3-أحراج الانصار عبر الكلام معهم واستنهاضهم أو عبر الكلام مع نسائهم.4-شرح دور الإمام علي (عليه السلام) في دعم الرسالة والإشارة له في كل كلامها لتنبه على الموضوع الأساسي.5-محاولة إيجاد مورد للدعم المالي لمرحلة المطالبة التالية.ولما لم ينفع مع القوم كل ذلك ليس لقصور فيها سلام الله عليها بل لأن الفتنة قد تمكنت من الناس عمدت إلى الانتقال للمرحلة التالية وهي ما أسميها بمرحلة تثبيت الحق تاريخياً حيث قامت بـ:1-مقاطعة جميع من لم يساندها وبالذات الشيخين.2-رفض أي صورة من صور المصالحة أو الاعتذار.3-الاعلان عن المقاطعة بصورة واضحة جداً.4-التخطيط لدفنها سراً ومنع حضور أي أحد من هؤلاء جنازتها ومعرفة مكان قبرها وبذلك تكون قد أغلقت عليهم باب الاعتذار وأبقت جذوة المظلومية مستمرة. وبذلك تكون قد حولت عبر تحليلها السياسي البارع وتصرفها على ضوء هذا التحليل رغم ضخامة الفتنة وقلة وعي الناس، حولت الهزيمة الظاهرية المؤقتة إلى نصر تاريخي من نتاجاته مطالبة البعض من ملوك بني أمية وبني العباس بإرجاع حق فدك لبني فاطمة-وهو قصور فهم منهم لمغزى هذه المطالبة- ومن نتاجاته ما نحن فيه من حال الآن ونحن نحيي ذكرى الأيام الفاطمية ونشيعها جهاراً نهاراً رغم مرور كل تلك السنين، مما يثبت صحة الاسلوب والمنهج الذي اتخذته الزهراء عليها السلام في تحليل الأحداث والتعامل معها مع ملاحظة المبدئية التي هي سمة لا تفارقهم أهل البيت (عليهم السلام) بل هم أهلها فلا مكر ولا ختل في سياستهم بل وضوح ولا قصد انتصار بل قد اصلاح لذا يتركون خيارات كثيرة قد يراها البعض سهلة ممكنة ويستغرب لتركهم لها ولكنه نسي إن دونها حاجز من تقوى الله. وهو ما نفتقده اليوم كثيراً في سياستنا وفي تحليلنا السياسي سواء كسياسيين أو كمتأثرين بالسياسة-كما يقول روبت دال صاحب كتاب التحليل السياسي الحديث ما مضمونه لا يمكن للمرء تجنب السياسة أو النتائج المتولدة عنها- فنحن نخطأ في قراءة الاحداث وتحليل دوافع الاشخاص ونواياهم لأننا في الغالب نتأثر بالموقف الحالي فقط ونتجاهل أو ننسى ما قبله أو لأن نحلل وفقاً لما نتمنى لا وفقاً للواقع ، بل قبل كل ذلك نحن لا نتابع الاحداث بما يكفي للتحليل الصحيح، ونحن إن احسنا التحليل أو اعتمدنا على من يحسنه فإننا لا نتصرف على ضوئه بل على وفق ما نتمنى أيضاً أو وفق ما نلمس فيه المصلحة الشخصية والفئوية لا وفق معيار الصواب والخطأ-وهذا الخطأ وقع ويقع فيه الأغلبية بمستويات مختلفة- لذا لتكن الأيام الفاطمية وسيرة الزهراء (عليها السلام) درساً لنا في هذا الجانب كما هي لنا درس في جوانب أخرى ولنتعلم منها سلام الله عليها إن معرفة الحقيقة ونصرتها تتطلب جهداً كبيراً وثمناً يُدفع وإلا فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون. والحمد لله رب العالمين[1] - ألقيت في مهرجان الشهادة الأول الذي أقامته مؤسسة فيض الزهراء ع في مدينة الدواية في محافظة ذي قار يوم الجمعة 4/3/2016
مقالات اخرى للكاتب